12 سبتمبر 2025 06:42
سيناء الإخبارية
سيناء الإخبارية

نصب الهولوكوست في فرنسا بين الذاكرة الوطنية وصراعات الشرق الأوسط

شهدت مدينة ليون الفرنسية خلال الأيام الأخيرة حادثة لافتة أثارت جدلاً واسعاً في الأوساط السياسية والإعلامية، بعدما تعرض نصب تذكاري للهولوكوست للتخريب على أيدي مجهولين كتبوا عليه عبارة “حرروا غزة” مستخدمين الطلاء الأخضر.

الحادثة لم تمر مرور الكرام في بلد يعد من أكثر الدول الأوروبية حساسية تجاه ملف معاداة السامية، بالنظر إلى ماضيه التاريخي في فترة الاحتلال النازي، كما أنها تزامنت مع تصاعد التوترات في الشرق الأوسط نتيجة الحرب الإسرائيلية على الفلسطينيين في غزة

النصب المعروف باسم “سكك الذاكرة” جرى افتتاحه في يناير الماضي بجوار محطة قطارات “ليون-بيراش” تخليداً للذكرى الثمانين لتحرير معسكر أوشفيتز.

يتألف من قضبان حديدية متقاطعة بارتفاع ثلاثة أمتار ترمز لمسافة الترحيل بين ليون ومعسكر الموت في بولندا، وقد نقشت عليه عبارة تذكارية تخلد ستة ملايين يهودي قضوا في المحرقة، بينهم 6100 من أبناء المنطقة. لذلك فإن الاعتداء عليه لم يُنظر إليه كعمل تخريبي عابر، بل كطعنة موجهة لذاكرة وطنية جماعية ما زالت تشكل أساس المصالحة الفرنسية بعد الحرب العالمية الثانية

ردود الفعل الرسمية جاءت قوية وسريعة، إذ وصف عمدة ليون غريغوري دوسيه الحادث بأنه “غير مقبول” ومؤشر خطير على صعود الكراهية ومعاداة السامية، مؤكداً أن مدينته ستبقى صامدة في وجه العنصرية.

فيما أعلن رئيس جمعية النصب التذكاري للهولوكوست جان أوليفييه فيوت تقديم شكوى قضائية، بينما ندد المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا بالواقعة، معتبراً أن كراهية إسرائيل تغذي كراهية اليهود والجمهورية الفرنسية على حد سواء. أما وزيرة الداخلية فقررت تعزيز الإجراءات الأمنية حول المعابد والمدارس اليهودية قبيل احتفالات عيد شفوعوت

لم يقتصر الجدل على الداخل الفرنسي، إذ دخل وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر على الخط، متهماً حكومة باريس والرئيس إيمانويل ماكرون بالتقصير في مواجهة معاداة السامية، وداعياً إلى موقف أكثر حزماً.

الأمر الذي اعتبره مراقبون محاولة إسرائيلية لتوظيف الحادثة في معركة سياسية ودبلوماسية، خاصة في ظل النقاش الدائر داخل مجلس الأمن حول الاعتراف بدولة فلسطين

ويرى محللون فرنسيون أن استهداف هذا النصب ليس مجرد اعتداء على ذاكرة المحرقة، بل هو محاولة لإعادة كتابة التاريخ وتقويض ركائز المصالحة الوطنية التي تأسست بعد الحرب.

كما يعكس من زاوية أخرى إدخال صراع غزة والضفة الغربية إلى قلب النقاش الداخلي الفرنسي. فوفق الباحث شارل كازان، فإن هذه الحوادث تُستغل سياسياً من طرفي اليمين واليسار المتطرف، الأول يستخدمها لمهاجمة المهاجرين والمسلمين وطرح قضية الهوية والأمن، بينما يسعى الثاني إلى التقليل من خطورة الظاهرة بدعوى رفض استغلالها سياسياً. والنتيجة، بحسب كازان، أن فرنسا تجد نفسها مسرحاً لتصفية حسابات إقليمية تتجاوز حدودها

أما المحلل السياسي طارق وهبي فقد أشار إلى أن الاعتداء يحمل دلالات مرتبطة بموقف الدولة الفرنسية من إسرائيل، موضحاً أن هناك تيارات سياسية ولوبيات نافذة تستغل ذكرى المحرقة كوسيلة للتغطية على الانتهاكات الإسرائيلية بحق الفلسطينيين.

ويضيف أن بعض النواب ذوي الجنسية المزدوجة الفرنسية – الإسرائيلية مارسوا ضغوطاً مباشرة على الرئيس ماكرون لمساندة إسرائيل، مهددين بتحركات داخل البرلمان، وهو ما يعكس حجم التوتر السياسي الذي يسببه هذا الملف داخل فرنسا

بالنسبة للجالية اليهودية، التي تُعد ثالث أكبر جالية في العالم، فقد عبرت عن قلق عميق إزاء هذه الاعتداءات التي رأت فيها محاولة لنزع الصفة الإنسانية عن اليهود، فيما حذر ناجون من المحرقة من أن تصاعد هذه الظواهر يشبه ما حدث قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية.

بعضهم أكد أن عدداً من اليهود الفرنسيين اضطروا مؤخراً إلى تغيير أسمائهم في تطبيقات مشاركة السيارات خشية التعرض لاعتداءات بسبب هويتهم

إحصائياً، تكشف الأرقام الرسمية عن تزايد حاد في الأعمال المعادية للسامية بفرنسا منذ اندلاع الحرب على غزة، حيث سجلت السلطات 1676 حالة عام 2023، أي أربعة أضعاف ما كان في العام السابق، تلتها 1570 حالة في عام 2024. ورغم انخفاض بنسبة 27% في النصف الأول من عام 2025، إلا أن الأعداد لا تزال مضاعفة مقارنة بعام 2022. ويعزو خبراء ذلك إلى ضعف المناهج التربوية في ربط دروس الهولوكوست بالمواطنة المعاصرة، والاكتفاء بإطار تاريخي بارد لا ينعكس بشكل مباشر على قيم التعايش

من زاوية أخرى، استغل اليمين المتطرف هذه الأحداث لتقديم نفسه كحامٍ لليهود الفرنسيين ضد العنف، رغم تاريخه الطويل من الخطابات المعادية لهم.

وفي تحول مثير للجدل، شارك قادة الجبهة الوطنية مؤخراً في مؤتمر بالقدس حول معاداة السامية، في محاولة لإعادة تموضع استراتيجي يوجه الأنظار نحو المسلمين والمهاجرين بدلاً من اليهود، مكرساً خطاب “الصراع الحضاري” الذي يتبناه أقصى اليمين الأوروبي

الحادثة في مجملها تمثل مرآة لصراع أكبر من فرنسا ذاتها، صراع تتداخل فيه الذاكرة التاريخية لضحايا الهولوكوست مع تداعيات النزاع الفلسطيني – الإسرائيلي، حيث تصبح القيم الجمهورية في مواجهة اختبارات صعبة مرتبطة بالهوية، والذاكرة، والتعايش، وضغوط السياسة الدولية.

وفي خضم هذا المشهد يبقى السؤال الأساسي: كيف يمكن لفرنسا أن توازن بين حماية ذكرى ضحايا الإبادة النازية وصيانة وحدتها الداخلية، وبين التعامل مع ملفات ملتهبة في الشرق الأوسط تترك بصماتها الواضحة على واقعها الاجتماعي والسياسي