تحف المتحف المصري.. “المشرف على الكتبة وابنه” لوحة تنبض بالحكمة والقداسة

في أروقة المتحف المصري تقف لوحة فريدة تحمل عبق الماضي وتفاصيل الدقة المصرية القديمة، تُعرف باسم لوحة المشرف على الكتبة وابنه، وتُعد من التحف الفنية التي تكشف عمق الفكر والرمزية في فنون مصر القديمة.
تصوّر اللوحة المشرف نفر-حوتب واقفًا في وضع مهيب، مرتديًا جلد النمر الذي يرمز إلى مكانته الدينية ككاهن رفيع، وإلى جواره ابنه نفر-حر-إن-بتاح بحجم أصغر، في دلالة على الاحترام والتبعية، ممسكًا بأدوات الكتابة على كتفه، وكأنه يستعد لتدوين أسرار المعبد أو سجلات القصر الملكي.
في مصر القديمة، لم تكن مهنة الكتابة مجرد عمل إداري، بل فنًّا مقدسًا ومقامًا رفيعًا.
تنوّعت مراتب الكتبة ما بين الكاتب الملكي المسؤول عن شؤون القصر، وكاتب المعبد الذي أوكلت إليه مهام توثيق الطقوس والقرابين، وكاتب الحياة اليومية الذي سجّل تفاصيل الزراعة والتجارة والذهب والقمح وكل ما يخص حياة المصري القديم.
امتلك الكاتب أدواته الخاصة التي شكّلت جزءًا من هويته؛ مقلمة خشبية دقيقة الصنع تحتوي على فجوات للحبر الأحمر المخصص للمراسلات الملكية، والأسود للأغراض الإدارية، إلى جانب فجوة طويلة لحفظ الأقلام، ما يعكس نظامًا متقنًا ووعيًا عميقًا بقيمة التوثيق.
نال الكاتب في مصر القديمة ألقابًا تعبّر عن مكانته السامية في الدولة والمعبد، مثل: رئيس أسرار الملك، ورئيس أسرار الكلام المقدس، ورئيس أسرار محكمة العدل.
هذه الألقاب لم تكن مجرد عبارات فخر، بل شهادات تقدير حضارية تؤكد أن الكاتب كان الركيزة الأساسية في بناء الدولة المصرية وإدارة مؤسساتها بدقة ووعي وتنظيم.
تكشف لوحة نفر-حوتب وابنه أن المصري القديم لم يفصل بين الفن والعقيدة، ولا بين الجمال والوظيفة، بل جمع بينها في لوحة واحدة تنبض بالحياة، وتخلّد هيبة الكاهن وقداسة الكلمة.
إنها ليست مجرد قطعة أثرية، بل صفحة من التاريخ كتبتها يدٌ كانت تعرف أن الحضارة تُبنى بالقلم قبل الحجر.
تعليقات 0