مصر تعيد رسم ملامح دورها الإقليمي وتكسر قيود التبعية لواشنطن

في مشهد إقليمي متشابك يتسم بالتوترات السياسية والعسكرية والاقتصادية، تبرز مصر كفاعل محوري يعيد صياغة علاقاته مع القوى الكبرى ويستثمر موقعه الجغرافي وثقله العسكري والدبلوماسي ليعيد التموضع على الساحة الدولية.
التطورات الأخيرة في مفاوضات إطلاق سراح الرهائن، والتحركات العسكرية، والتوازنات الدقيقة مع الولايات المتحدة وإسرائيل، تكشف عن مرحلة جديدة من السياسة المصرية، التي تقوم على مزيج من الحزم والبراغماتية.
وبينما تتباين التقديرات حول تداعيات هذا التحول، يبدو أن القاهرة اختارت طريقًا مغايرًا يضع مصالحها الوطنية والإقليمية فوق أي اعتبارات خارجية.
هزة في المشهد الإقليمي
أحدثت مصر هزة في المشهد الإقليمي والدولي، بعدما اتخذت خطوات واضحة لتنأى بنفسها عن الولايات المتحدة، معززة قوتها العسكرية ومتمسكة بدورها المركزي في ملفات المنطقة، وعلى رأسها قضية غزة وحركة حماس.
الرئيس عبد الفتاح السيسي لا يتردد في مواجهة الإدارة الأمريكية، بل رفض دعوة لحضور اجتماع في البيت الأبيض، مكتسبًا في المقابل زخمًا إقليميًا ودورًا بارزًا في مفاوضات صفقة الرهائن.
في المقابل، يظل الحوار الأمني مع إسرائيل قائمًا على البراغماتية، لكنه لا يخلو من القلق، فالتطورات الأخيرة في ملف المفاوضات مثلت مؤشرًا إضافيًا على صعود مكانة القاهرة.
زيارة رئيس الوزراء القطري محمد آل ثاني إلى مصر، برفقة رئيس وزراء السلطة الفلسطينية محمد مصطفى إلى معبر رفح، قوبلت بترحيب أمريكي وإسرائيلي، ما يعكس إدراكًا متزايدًا لدور مصر الحاسم.
لكن هذا الزخم لم يأتِ بمعزل عن توتر مع واشنطن، فالعلاقة التي كانت تتسم في ولاية ترامب الأولى بلغة الاستعلاء – حين وصف الأخير السيسي بـ”الديكتاتور الذي يحبني” – أصبحت أكثر صدامية ، إذ لم تتردد القاهرة في عرقلة الخطة الأمريكية-الإسرائيلية الرامية إلى تهجير فلسطينيي غزة.
ووفق تقارير، أدارت مصر حملة إلكترونية واسعة عبر “لجان إلكترونية” مرتبطة بالمخابرات، بثت رسائل مناهضة للخطة، كما تتحرك القاهرة دبلوماسيًا لإقناع دول إفريقية برفض استقبال لاجئين من غزة.
العلاقات المصرية الأمريكية
يرى الباحث بوراك كين كليك أن العلاقة الأمريكية-المصرية دخلت مرحلة جديدة، حيث لم تعد القاهرة مستعدة للعب دور المتلقي السلبي، ورغم استمرار ارتباطها بواشنطن عبر المساعدات العسكرية والمالية، فإن الخلافات تتوسع خصوصًا في ملفات غزة والسودان وشرق المتوسط.
هذا التغيير، وفق كليك، ليس اندفاعًا عاطفيًا بل استراتيجية مدروسة لتوسيع هوامش المناورة وتنويع التحالفات، مع إظهار استقلالية القرار أمام الرأي العام المصري.
ويعود هذا النهج إلى دروس مرحلة ما بعد الإطاحة بجماعة الإخوان المسلمين عام 2013، حين أدركت القاهرة ضرورة تنويع مصادر تسليحها وعدم الارتهان للمساعدات الأمريكية.
ومنذ ذلك الحين، اتجهت مصر نحو صفقات عسكرية متنوعة مقاتلات من فرنسا، سفن من ألمانيا، حاملات طائرات من روسيا، وأنظمة أسلحة من إيطاليا، فضلًا عن تدريبات مشتركة مع الصين وروسيا.
كما عزز الجيش وجوده على الحدود مع سيناء وليبيا والسودان لمواجهة التهديدات المتزايدة.
وبالتوازي، أعادت القاهرة ترسيخ مكانتها في العالم العربي عبر تعزيز علاقاتها مع الخليج، والحفاظ على قنوات تواصل براغماتية مع إسرائيل، والانفتاح على روسيا والصين وحتى إيران.
هذا التنوع منحها هامشًا واسعًا للتحرك، وحولها إلى لاعب لا يمكن تجاوزه في قضايا مثل غزة والسودان وشرق المتوسط.
التصعيد اللفظي بين مسؤولين مصريين وإسرائيليين يعكس بدوره مرحلة جديدة من الثقة بالنفس.
الجيش المصري قادر على الرد
فقد أكد اللواء شريف فخري، رئيس المخابرات الحربية، قدرة الجيش على الرد الفوري على أي تهديد، بينما رد ضياء رشوان على اتهامات إسرائيلية بمعاداة السامية بالتأكيد على “حق المصريين في الدفاع عن أنفسهم”.
في هذا السياق، برزت تصريحات الكاتب المصري محمد سعد خيرالله التي اعتبرت أن القاهرة سعت إلى إبقاء حماس ضمن المعادلة في غزة، باعتبارها ورقة استراتيجية تعزز دور مصر الإقليمي، رغم تهديدات ترامب المباشرة.
وهو ما يطرح تساؤلات حول ازدواجية الموقف المصري بين التزامات الشراكة الأمنية مع واشنطن من جهة، وحسابات الداخل والإقليم من جهة أخرى.
التحول السياسي ترافق مع مؤشرات اقتصادية لافتة، فقد أعلنت الرئاسة المصرية عن فائض أولي للسنة المالية 2024-2025 بلغ 13.03 مليار دولار، بزيادة 80% مقارنة بالفترة السابقة، رغم تراجع إيرادات قناة السويس بنسبة 60%.
كما انخفض معدل البطالة إلى 6.1%، في أدنى مستوى له منذ عقد، وإن ظل مرتفعًا بين الشباب بنسبة 28.9%. أما الجنيه المصري فيبقى تحت الضغط عند حدود 48 جنيهًا للدولار.
ويرى المراقبون أن مصر تبدو اليوم أمام معادلة معقدة من جهة، تحاول التحرر من قيود التبعية التقليدية لواشنطن وتنويع تحالفاتها لتعزيز استقلالية قرارها السياسي والعسكري.
ومن جهة أخرى، تواجه تحديات اقتصادية داخلية وضغوطًا إقليمية تجعلها في موقع شديد الحساسية، وبين البراغماتية والصدام، تسعى القاهرة لإعادة صياغة دورها كلاعب رئيسي في المنطقة، مستفيدة من موقعها الجغرافي وثقلها العسكري، ومحاولة فرض نفسها طرفًا لا غنى عنه في معادلات الأمن والسياسة والاقتصاد الإقليمي.
تعليقات 0